موضوع ومنهج التاريخ
يندرج الـتاريخ ضمن حـقل العـــلوم الإنـــــسانية لكونه يــــتناول
الحادثة التاريخية باعتــــبارها ظاهــرة تحـمل دلالـــة إنــــسانية ،أي تـدل
عــلى ما حـدث للإنــسان في الماضي وتـرك أثــره فيه، سـواء كــان هذا الحادث
طبيعيا (فيضان- زلـزال..)،أو اجتماعيا سيـاسـيا (ثـورة-حـرب..)،أو فـكريا
فـنيا(إبداعات...) .
قضـايا وأطـروحـات :
واجهت العـلوم الإنــــسانية، بفعل نشــــأتها المتأخرة ،مشــــكلة
"العلمية" تحت تأثــــير النموذج التجريبي الذي حـقق تقدما باهرا في
مجال العـــلوم الطبيعية (فيزياء ق 18) ، حيث انقســــمت الآراء بين معترض على
إمكانية قـيام علوم إنـــسانية بدعـــوى استحالة تطـــبيق خطـــوات المنهج
التجريبي (الملاحظة والتجريب...) وتعذر استيفاء شروطه (الموضوعية)؛ وبين مؤيد
لمشروعية هذه العلوم بحجة "الخصوصية" التي تميز الظواهر الإنسانية
،والتي تستلزم مناهج ملائمة لها..
مـن هـذا المنطلق، نجد أن عـلم الــتاريخ قد شكل مجـالا لإثـارة عـــدة
قضــــــــــايا "إبستـــمولوجية" ترتـبط بإمـكانيـة قـــيام معـــــرفة
تاريخـية عـلمية - موضوعية ،إضـــــــافة إلى قضـــايا تـــــندرج
ضـــــمن"فــــــلسفة الـــــتاريخ"، كطــبيعة حركـــة التــــــاريخ
وغـــايته أو دور الإنسان في صــنع التاريخ...فإلى أي حــد يمكن أن تكــون
مــــعرفة التـــاريخ علمية - موضوعية ؟..وكيف يتحدد منطق التاريخ أو سيرورته
وغايته؟..وإلى أي مـدى يكـــون الإنســـان فـــاعلا في صنـع التــــاريخ؟
المحور الأول : المعرفة التاريخية
تميز مجال "الإبستمولوجيا" بإثارة عدة قضايا منهجية حول مدى
إمكانية قيام علوم إنسانية ترقى معارفها إلى مستوى موضوعية ودقة الحقائق التي
أنتجتها العلوم الطبيعية أو" الحقة ".وقد شكلت مسألة " الموضوعية
" وجها بارزا لهذه الإشكالية، وخصوصا في مجال المعرفة التاريخية...
فالتاريخ، بوصفه معرفة تنصب على ماض زال وانتهى ،مثل ميدانا مناسبا لطرح
هذه المسألة، إما بهدف إثبات تعذر قيام معرفة علمية بالتاريخ بسبب انتفاء شرط
الموضوعية ، أو بغاية التأكيد على خصوصية تفرض اعتماد معايير أخرى تناسب طبيعة
المجال وتوفر،بالتالي،العلمية المنشودة للمعرفة التاريخية.
ونصادف، بصدد تحديد طبيعة وقيمة المعرفة التاريخية ،أطروحات تدافع عن
إمكانية بناء معرفة علمية بالتاريخ من خلال التأكيد على أن الصعوبات الموضوعية
والذاتية التي تكشف عن الطابع المحدود والنسبي لهذه المعرفة لا تمثل مدعاة للطعن
في مشروعية المعرفة التاريخية بقدر ما تكشف عن الخصوصية التي تميز هذا المجال.
ماكس فيبر:(1864/1920)
وفي هذا السياق يندرج موقف "ماكس فيبر" الذي يعتبر أن الحوادث
التاريخية- التي تشكل موضوع عمل المؤرخ- تتميز بالكثافة من جهة،الشيء الذي يطرح
صعوبة الإحاطة بها مهما بلغ المنهج المعتمد من صرامة..ومن جهة أخرى،تمثل وقائع
الماضي حوادث متفردة لا تسمح بالتوصل إلى قوانين ثابتة كما هو الشأن بالنسبة
للعلوم الحقة (مشكلة انتفاء تكرار الحوادث وتعذر التعميم).
وإضافة إلى هذه الصعوبات الموضوعية النابعة من طبيعة الواقع التاريخي،
يؤكد" ماكس فيبر" على أهمية البعد الإيديولوجي- كعامل ذاتي – في توجيه
عملية التفسير التي يقدمها المؤرخ للتاريخ، وذلك من خلال انتقائه للعوامل أو
الأسباب المفسرة لحوادث الماضي، حيث تتدخل القيم والأحكام الذاتية في إعطاء
الأولوية لعامل على آخر..
وهكذا ينتهي هذا التصور إلى اعتبار أن المعرفة التاريخية لا يمكن أن تكون
تامة فضلا عن امتزاجها بذاتية المؤرخ أو نظرته الخاصة.
ريمون آرون:(1905/1983)
في نفس الإتجاه، يركز"ر- آرون" على عائق المسافة الزمنية التي
تفصل الماضي الذي يراد استعادته عن الحاضر المعيش. فالواقع الذي نعيشه ندركه
بطريقة تلقائية ؛ أما الماضي الذي لم نعشه فيتعذر فهم دلالات أحداثه. وينجم عن ذلك
أن المعرفة التاريخية تظل صعبة المنال في شموليتها،ولا يمكن إلا أن تكون نسبية
محدودة..كما أن جدلية الماضي والحاضر هذه قد تجعل المؤرخ متأثرا بواقعه الإجتماعي
في فهم دلالات الماضي (العامل الإيديولوجي). ويقول"ر- آرون" عن ذلك:
" لم تعد المعرفة بالتاريخ قائمة علىقص ما حدث نقلا عن وثائق مخطوطة ، ولكنها
قائمة في ما نريد أن نكتشفه
".
بول ريكور: (1913/2005)
نصادف طرحا آخر يحاول إضفاء المشروعية العلمية على التاريخ عند
"ب-ريكور" الذي يؤكد على "الخصوصية" التي تطبع المعرفة
التاريخية بوصفها معرفة لا تنصب على معطيات جاهزة مثل العلوم الحقة، بل هي معرفة
يتم بناؤها اعتمادا على منهج خاص يقوم على استنطاق مخلفات الماضي وتحويلها إلى
وثائق "دالة" بناء على منهج دقيق يمارس من خلاله المؤرخ الملاحظة
والنقد..وهذه الممارسة المنهجية لا تختلف ،من حيث قيمتها، عن المنهج المعتمد في
العلوم الحقة، مع تميزها بخصوصية تستوجبها طبيعة الظاهرة التاريخية.
أما عن الموضوعية المتوخاة في المعرفة العلمية، فيؤكد "ب-ريكور"
على أن خصوصية موضوع التاريخ ومنهجه تقتضي النظر إلى المعرفة التاريخية من خلال معيار
لا يخضع ،بشكل مطلق،للمعنى المتعارف عليه في العلوم الحقة حول مبدأ الموضوعية.
فالمعرفة التاريخية لا تخلو من الذاتية التي تتمثل في ترجيح المؤرخ لعامل مفسر على
آخر. ومن ثم، بدل التمسك بمطلب الموضوعية التامة التي تضفي على المعرفة سمة
الإطلاق، ينبغي اعتبار المعرفة التاريخية نسبية يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي.
والمعرفة التاريخية ينبغي لها أن تنصرف عن الرغبة في الموضوعية إلى البحث عن ذاتية
"جيدة" تسعى إلى جعل التاريخ معرفة ممكنة.
وعــموما، يتضـــــح أن المـــــعرفة التاريخية قــد لا تكون تـــامة
وموضوعية بالـــنظر إلى العـــوائـــق المنهجية - الموضوعية والذاتية - التي تؤكد
عليها التصورات السابقة...غير أن ذلك لا ينفي كونها معرفة لا تخلو من شروط العلمية
بالنظر إلى الخصوصية التي تميز موضوع ومنهج التاريخ .
المحور الثاني : التاريخ وفكرة التقدم
بالإضافة إلى ما تطرحه المعرفة التاريخية من إشكالات منهجية ذات طبيعة
إبستيمولوجية (الموضوعية..)،نجد في مجال"فلسفة التاريخ" قضايا أخرى
ترتبط بالمنطق الذي يحكم حركة التاريخ أو سيرورته، وبدور الإنسان في التاريخ..ومن
أهم المواقف في هذا الإطار:
فريديريك هيجل:
تقوم فلسفة "هيجل" على مفهوم "الديالكتيك" الذي يحدد
من خلاله طبيعة الحركة الجدلية التي يخضع لها الواقع بكل مستوياته (القضية-
النقيض- التركيب). وهي حركة تسير عليها الطبيعة في نموها، كما يسير عليها العقل في
نشاطه المعرفي. فالصيرورة ،أي الانتقال من حال إلى آخر انتقالا جدليا، هي القانون
المتحكم في حركة الكون والعقل والتاريخ. والغاية النهائية لهذه الحركة هي تحقيق
المطلق أو إرادة الروح الكلية أو المطلقة..
وبناء على تصوره الجدلي، يرى"هيجل" ،في فلسفته التاريخية، أن
تاريخ الإنسانية يسير وفق هذا القانون الذي يعكس إرادة الروح الكلية التي تتخذ من
عظماء الأمم وأبطالها أدوات لتحقيق المطلق. فكل أمة تتمكن من السيطرة ،في فترة
زمنية معينة، تكون أداة لاشعورية تعبر عن إرادة الروح الكلية،إلى أن تتسلم أمة
أخرى زمام القيادة في إطار تحقيق الحرية والتقدم وفقا لمشيئة الإرادة الإلهية.
كارل ماركس:(1818/1883)
لقد أخذ"ماركس" مفهوم الجدل(الديالكتيك)عن"هيجل"رافضا
نزعته المثالية التي تجعل من الفكر(الروح الكلية)أساسا وغاية للوجود..فصيرورة
التاريخ عند"ماركس" محكومة بالتناقض المادي بين قوى الإنتاج وعلاقات
الإنتاج، وهو تناقض ينشأ عنه صراع اجتماعي أو طبقي يؤدي إلى التحول من نمط إنتاج
إلى آخر في إطار حركة جدلية تطورية يتحقق عبرها النمو والتقدم. وذلك أن كل نمط
إنتاج يحتضن في جوفه عناصر متناقضة تدخل في صراع ينتهي بالإنتقال إلى نمط جديد
يمثل مرحلة أكثر تقدما.
م/ ميرلو- بونتي:
يرفض"ميرلو- بونتي" التصور الذي يقوم على الإعتقاد بأن التاريخ
يحكمه منطق معين يجعله يسير في اتجاه محدد أو يسعى نحو غاية مرسومة . فالقبول
بفكرة التقدم الضروري أو الحتمي في حركة التاريخ يضفي على التاريخ البشري صبغة
برنامج محدد سلفا، ويسقــــطنا في نزعة لاهوتية (ثيولوجية) بعــــيدة كل البعــد
عن العقلانية..ومن هنا، يجب عدم إغفال "العرضية" في مسار التاريخ، والتي
تتجلى في تعدد الإمكانيات التي تنفتح عليها حركة التاريخ، بحيث لا يعود ما يسمى
بمنطق التاريخ سوى إحدى هذه الإمكانيات.
ك- ل- ستراوس:
من المعروف أن المنظور الأنتربولوجي يقوم على التأكيد على مفهوم الإختلاف
في مقاربته للثقافات البشرية المتنوعة، معتبرا أن القيمة الحقيقية لكل ثقافة تكمن
في ما يميزها من اختلاف وليس في درجة تقدمها التقني..ولا يخفى البعد النقدي لهذا
التصور تجاه المركزية الأوربية التي تضفي على النموذج الغربي طابعا كونيا يفرض
نفسه ،كمسار تاريخي حتمي، على بقية المجتمعات...
ومن هذا المنطلق، يرفض"ل- ستراوس" فكرة التقدم في التاريخ
لكونها تنطوي على الإقرار بتصنيف أو ترتيب يسلم بهيمنة النموذج الغربي في التطور؛
هذا في حين أن المجتمعات ليست مـلزمة باتــباع نـفس المســار التــطوري للغرب
بدعـــوى ضرورة التـــقدم، بل ينبــغي احترام الإختلافات الثقافــية التي تضــفي
على فكرة التقدم طـــــابع النسبية... ونجد توضيحا لهــــذا الموقف في قــول
"ل- ستراوس" : "كل مجتمع يتقدم من زاوية ما ويأسن أو يرتكس من
زوايا أخرى. إن ما لا أعــتقد فيه هـو أن يمكن تنظـيم وتصنيف المجتمعات
الإنــــسانية على ســــلم وحــيد للتـقدم،حيث يحتل كـل مجتـــمع مكانا قــبل أو
وراء المجتمعات الأخرى. ليس هناك نظام علمي للتقدم. لا أعتقد أن هناك اتجاها
للتاريخ".
هكذا، يتبين أن التاريخ يطـــرح إشكالا نظريا انقسمت بصدده فلسفات التاريخ
إلى تصورات تعـــــتبر حركة التاريخ خاضعة لمنطق خاص يرمي إلى تحقيق التقدم سعيا
وراء غايات قد تتمثل في بلوغ المطلق وفــقا لإرادة الروح الكلية (هيجل)، أو في
الوصول إلى المجتمع الشيوعي الذي ينتفي فيه التناقض ويغيب فيه الصراع الطبقي
(ماركس)...وتصورات تعترض على فكرة التقدم الخطي الهادف إلى غاية نهائية، إما
بالتأكيد على عــدم استــــبعاد الصـدفة والعرضية في النــظر إلى حركـــة
التاريــــخ (ميرلو- بونتي)، أو بتنسيب فكرة التقدم من خلال الإصرار على شرط
احترام الإختلاف أو الخصوصية الثقافية (ستراوس).
المحور الثالث : دور الإنسان في التاريخ
تحتضن فلسفات التاريخ،أيضا،تصورات حول دور الإنسان في صنع التاريخ وتوجيه
مساره نحو أهداف معينة..فهل يتحدد الإنسان كصانع للتاريخ وفقا لإرادته،أم أنه يخضع
لقوى أخرى تعد المسؤول الحقيقي عن حركة التاريخ وغايته ؟
هيجل:
في ظل هذا التصور المثالي الذي يقوم على الإعتقاد بوجود "روح
كلـية"تســـــري في الــكون وتتــــــحكم في حركــــة وغــــاية التاريخ،
يمـثل الإنـسان أداة فـي يـد هذه القوة التي تستخدمه من أجل تحقيق المطلق. وهي
تختار من الناس الأبطال والعبــاقرة لكونهم يجســـدون، أفضـل من غــيرهم، الغايات
التي تــرمي إليها الإرادة الإلــهية، فيــــــكون دورهم هـــو تحقــــيق التقدم
في انسجام مع غاية الروح الكلية في بلوغ المـطلق...فالإنـسان ليس سوى وسيلة في يد
التاريخ وليس صانعا له إلا بالمعنى الهيجلي الذي يتـجلى في تنــفيذ برنامج محـدد
سلفا من قبل الروح الإلهية المطلقة. وأما اعتقاد الإنسان في كونه صانعا للتاريخ،
فليس سوى وهما أو خداعا ومـــكرا من التاريـــــخ ..!
ماركس:
تركــــز الماركسية على الدور الأســـــاسي للصراع الطـــــبقي كمحرك
للتـــــاريخ، حيث تغــــــدو الطبــقة الإجتماعية (المستغلة أو المحكومة) فاعلا
أو صانعا للتاريخ عندما تدخل في صراع مع الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج من أجل
إحداث تغيير ثوري ينجم عنه التحول إلى نمط إنــتاج جديـــد أكثر تقدما من النمط
السابق.غير أن بلوغ الصراع الطبقي مســـتوى التغــــيير الـثوري يتوقـف،أيــــضا،على
نضج الشروط الموضوعية المتمثلة في بلوغ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته درجة
التغيير الكيفي..ومعنـى ذلك أن التغيير الثوري لا يخضع لإرادة الأفراد فقط، بل يظل
رهــــينا بتوفر الشروط المادية(اقتصادية بالخصوص)، مما يؤكد أن تأثير الإنسان في
حركة التاريخ لا يـتم بحرية كاملة،على اعتبار أن ارتهان التغيير الثوري بالعوامل
الاقتصادية يجعل هذا التأثير نسبيا محدودا.
سـارتــر:
تحتل مســألة حرية الإنسـان مكانة هامة في الفلسـفة الوجــودية التي
يعـد"سـارتـر" أحـد أبرز أعلامـها، وذلك مـن خلال تأكــيدها على أن الإنســـان
يبـــني ماهيـــته وفــــقا لما يريـد أن يكـون عليه(الإنسان بوصفه
"مشروعا" عند "سارتر"). ونـتيجة هذا الـــموقف هي اعتبار
الإنسان قادرا على صنع التاريخ وتوجيه مساره عندما يمتلك الــوعي بالممكـــنات أو
الإختيارات المتـــــاحة له،لكي يتمـــكن من تجـاوز الوضــــعية المعــطاة ،أو
الــــشروط الموضوعية، عبر تحقيقه لمشروعه ضمن حقل الممكنات التي يختار إحداها.
وهكذا، يتبين أن دور الإنسان في التاريخ قد يكون محكوما بقوى متعالية
يستجيب الأفراد لمشيئتها دون وعي منهم إذا انطلقنا من وجهة نظر مثالية (هيجل)، وقد
يكون الإنسان فاعلا في التاريخ في إطار حرية نسبية لا تنفلت من تأثير الشروط
الموضوعية حسب التصور المادي (ماركس)، كما قد نرى في الإنسان صانعا للتاريخ بحرية
أكبر تتأسس على الوعي بالممكنات مثلما تؤكد ذلك الوجودية (سارتر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق