:
تجربة الغربة والضياع
نكبة فلسطين 1948م، وتعاقب مجموعة من النكسات والهزائم المتوالية وخاصة
هزيمة 1967م، مما زعزع الثقة بالموروث العربي القديم (المرجع ص:56) وزرع الشك في
نفوس المثقفين والمبدعين، وقوى الرغبة في إعادة النظر في كل ما يحيط بالذات من وثوقيات
سياسية أو ثقافية أو اجتماعية تقليدية ممنوعة، أولها الرغبة في التحرر من سلطة
الشعر التقليدي (المرجع ص:56)
o الاحتكاك بالثقافات الأجنبية والانفتاح على الأفكار والفلسفات
والاتجاهات النقدية في الأدب والشعر الغربي، خاصة التيارات الاشتراكية والوجودية .
o انخراط المثقفين في عملية التغيير، وإعطاء التغيير الثقافي أولوية كبرى
وما يقتضيه من التسلح بمجموعة من المعارف والعلوم كالفلسفة والتاريخ والأساطير
وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، فوجدت هذه المعارف صداها في الشعر
الحديث.
o استيعاب الشاعر الحديث للروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط
المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية
والحرانية(الصابئة)،
o انفتاح الشاعر الحديث على الروافد الثقافية الملتزمة بقضايا الإنسان في
الأعمال الأدبية العالمية كأشعار أودن وبابلو نيرودا و وپول إيلوار و لويس أراگون
و گارسيا لوركا وماياكوفسكي وناظم حكمت والاستعانة بقصص كافكا وأشعار ريلكه وإليوت
o عودة الشاعر الحديث إلى الثقافة الشعبية في أبعادها الايجابية)سيرة
عنترة، أبوزيد الهلالي، سيف بن ذي يزن، ألف ليلة وليلة( وتعمق في قراءة القرآن
الكريم و الحديث ، واستوحى الأجواء الشعرية القديمة.
تحولات القصيدة العربية مع تجربة الشعر الحر:
o تغير وظيفة الشعر: إذ صار " الإبداع الشعري وسيلة لاكتشاف الإنسان
والعالم، وفعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى"
)أدونيس، تجربتي الشعرية، مجلة الآداب، ع مارس 1966، ص.5(، وأصبحت "كتابة
الشعر مغامرة تطمح إلى تقسير العالم وتغييره" )محيي الدين محمد، الفكر في شعر
بدر، مجلة الشعر القاهرية، (،وبدأ الشاعر يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون
والوجود والقيم والمعرفة، استطاع بها أن يمزق قشرة الواقع العربي، وأن يقف على
مواطن العذاب والقلق، وأن يدس حساسيته، وموهبته، وفكره في ذلك الركام المتفسخ،
بحثا عن قطرة ماء.
o تعدد الروافد: الشاعر المعاصر لا يعرف معنى الاستقرار فهو كثير التنقل
تناصيا وكثير الترحال معرفيا، فقد" طوف مع يوليس في المجهول، ومع فاوست ضحى
بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى إلى اليأس من العلم في هذا العصر، تنكر له مع
هكسلي،فأبحر إلى ضفاف الكنج، منبت التصرف، لم ير غير طين ميت هناك، وطين ميت هنا،
طين بطين، ولا تقف رحلة الشاعر الحديث عند حدود الزمان والمكان والتاريخ والحضارة،
فقد حمل صليبه مع المسيح، وحمل صخرته مع سيزيف، وعاقر الأتراح والآلام مع كلكمش في
رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الخلود، ومع الحلاج في مأساته بين البوح والكتمان،
ورهن المحبسين مع أبي العلاء، قرأ اسمه على شاهد قبره، وقرأه على الآجر المشوي في
أطلال نينوى، وعلى الصوامع المهدمة في أحياء نيسابور، حتى إذا أعياه الضرب في
الأرض، ألقى عصاه في انتظار الذي يأتي ولا يأتي" المرجع ص.60.
o تفرد المضامين الشعرية: تجربة الشاعر المعاصر رحلة في الأمل والألم
ومحاولة لمعاناة الواقع معاناة حضارية، تصهر جميع الموضوعات الجزئية)الحب، المرض،
الفرح، الحزن(في محرقة النكبة وواقع الإنسانية المأزوم، تمدها تجربة الشاعر الخاصة
بما يكفي من القلق والتوثر.
o تفجير الشكل القديم للقصيدة: استعصت تجربة الشعر الحر على الأشكال
والوسائل التعبيرية القديمة، فبحثت عن أشكال تعبيرية جديدة للسيطرة على ماتثيره
المضامين الجديدة من مشكلات تتجاوز ذات الشاعر، إلى واقع الأمة الحضاري. علما أن
المضامين الخصبة المتطورة قادرة على تحقيق الوسائل الفنية الجديدة وتبرير وجودها،
وبهذا الاعتبار أصبح الشكل الجديد يقوم على موسيقى التفعيلة الواحدة. المرجع ص62.
لقد استوى الشكل الشعري الجديد مع مجموعة من الشعراء المحدثين كبدر شاكر السياب
ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي…
o توزع المضامين الشعرية الحديثة بين تجربتين: لعل أقرب التجارب إلى
تصوير الدمار الذي عم بعد النكبة هما تجربتي الغربة والضياع وتجربة الالحياة
والموت.
تجربة الغربة والضياع في الشعر الحر:
o ومن الموضوعات التي نصادفها بكثرة في الشعرنا الحر نلفي تجربة الضياع
والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية
وترتبط بالعوامل التالية:
1. التأثر بشعر توماس إليوت صاحب القصيدة الشهيرة" الأرض
الخراب"، فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي " ليس سوى رمزا للإنسان
الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت".
2. التأثر بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات
الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية، ودراسة كولن ويلسن عن" اللامنتمي"،
3. عامل المعرفة، التي كانت زاد الشاعر المعاصر وسلاحه، فيتحول الشعر إلى
أسئلة معرفية ووجودية تقود الذات إلى اتخاذ مواقف صارمة من نفسها ومن المجتمع
والكون.
وكل هذا جعل الشاعر المعاصر يعاني من الضجر والقلق واللامبالاة ، وبدأ
يعزف أنغاما حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي
والتآكل الذاتي والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع
العربي بسبب قيمه الزائفة وهزائمه المتكررة.
o وتحضر هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة "الرأس
والنهر " من ديوان " المسرح والمرايا"، وعند عبد الوهاب البياتي
وصلاح عبد الصبور في قصيدته "مذكرات الصوفي بشر الحافي" من ديوان
"أحلام الفارس القديم"، و لدى عبد المعطي حجازي.
o وتتنوع الغربة في أشعار المحدثين لتشمل الغربة في الكون، والغربة في
المدينة، والغربة في الحب، والغربة في الكلمة.
1. الغربة في الكون: وترتبط بميل الشاعر المعاصر إلى الشك في الحقائق
والميل إلى التفلسف الأنطولوجي ( الوجودي)، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، والدافع إلى
ذلك أن الشاعر يحس بالعبث والقلق والمرارة المظلمة كما نجد ذلك في نصوص صلاح عبد
الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال. المرجع ص69.
2. الغربة في المدينة: تتجلى في تبرم الشاعر من المكان المديني الذي حول
الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة
المعاصرة التي علبت الإنسان وشيأته، وأضحت دون قلب أو دون روح، وفقدت كثيرا من
مظاهر الأصالة، منذ غزتها المدينة الأوربية بعمارتها وطرقها وآلياتها ومصانعها،
فالقاهرة بدون قلب عند عبد المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب وبيروت
أدونيس وخليل حاوي. واتخذت المدينة في شعر هؤلاء قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا
واقتصاديا، يشعر بالغربة في أبعادها الذاتية والموضوعية.
وعليه، فقد صور الشعر المعاصر المدينة في ثوبها المادي
كما عند الحجازي، أو الناس داخل المدينة وهم صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن كما في
جل أشعار عبد المعطي حجازي في ديوانه" مدينة بلا قلب".
ويلاحظ أن الشعراء المعاصرين لم يستطيعوا الهروب إلى
الريف أو إلى عالم الغاب كما فعل الرومانسيون، بل فكر السياب أن يهرب إلى قريته
جيكور في الكثير من جيكورياته، ولكنه وجد أن المدينة تحاصره في أي مكان وتطوقه
بأحابيلها المادية الإسمنتية، ولم يجد صلاح عبد الصبور أيضا سوى أن يجسد الخلاص في
الموت كما في قصيدة "الخروج".
3. الغربة في الحب:وإذا كان الشاعر الحديث قد فشل في فهم أسرار الكون
ووجوده، وفشل كذلك في التأقلم مع المدينة، فإنه فشل كذلك في الحب الذي أصبح زيفا
مصطنعا وبريقا واهما. ومن ثم، تتحول العلاقة بين الزوجين إلى عداوة وقتال كما في
قصيدة"الجروح السود" عند خليل حاوي في ديوانه" نهر الرماد"،
أو يموت الحب عند عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور.
4. الغربة في الكلمة: أر اد الشاعر المعاصر أن تصبح كلمته سيفا في وجه
الظلم ، لكن كلمته دخلت غربتها الذاتية في واقع لايعرف سوى الصدى وخنق الجهر و قتل
الكلام الصارخ، فتحولت إلى حجر عند أدونيس في قصيدة "السماء الثامنة"،
أوقد تتحول إلى الصمت كما عند البياتي في قصيدة " إلى أسماء". ومن هنا،
فالغربة في الكلمة، أو في المدينة، أو في الحب، " ليست سوى وجه واحد من عدة
أوجه، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة".
ويلاحظ أن الشاعر المعاصر لم يقف عند لون واحد من الغربة،
فهناك من مزج بين لونين، و من تحدث عن الألوان الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين
الأربعة في وحدة شعرية منصهرة:" تلك الوحدة سوغت له أن يمزج في بعض الأحيان،
بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، على نحو ما فعل إبراهيم أبو سنة
حين مزج بين الغربة في الحب والغربة في المدينة، في قصيدة له بعنوان " في
الطريق". وعلى نحو ما نجد عند صلاح عبد الصبور، الذي يمزج بين الغربة في
المدينة، والغربة في الكلمة في قصيدة" أغنية للشتاء". وقد يمضي بعض
الشعراء بعيدا، فيمزج في قصيدة واحدة بين ألوان مختلفة تتعدى ما سبقت الإشارة إليه
من ألوان الغربة، كما هو الشأن في قصيدة" فارس النحاس" لعبد الوهاب
البياتي"، التي جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة
والغربة في العجز. وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت
والغربة في الصمت. وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف
الخال" الدارة السوداء".
وقد تتداخل تجربة الضياع والغربة في قصائد الشعراء
المحدثين مع تجربة اليقظة والأمل. وإنه:" من المفيد أن نشير بصفة عامة، إلى
أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة
بين تأميم القناة، وبين واقعة الانفصال بين مصر وسورية. على حين بدأ إيقاع اليأس
يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة، وأن نشير بصفة خاصة، إلى أن استجابة الشاعر للإيقاع
السائد في المرحلة، لاتكون استجابة مطلقة".
وسبب هذا الضياع عند الشعراء المحدثين هو تأثرهم بالأدب
الوجودي كما عند سارتر وألبير كامو، ومن الشعراء الذين تغنوا بالسأم الوجودي
والقلق والاغتراب والضياع نستحضر كلا من صلاح عبد الصبور في قصيدة "الظل
والصليب " من ديوان" أقول لكم"، وكما حصل في بعض قصائد عبد الباسط
الصوفي من ديوانه" أبيات ريفية" كقصيدة" قصيدة ومقهى"،
وقصيدة" أحزان قديمة"، وقصيدة " تثاؤب".
وقد دفع هذا اليأس وهذا الضياع عند الشعراء المحدثين بعض
النقاد( حسين مروة، وجلال العشري، ومحمود أمين العالم، وفاروق خورشيد) إلى اتهام
هذا الشعر الجديد بالسلبية والنكوص والضعف والاستسلام والميل إلى الذاتية الباكية
على غرار الرومانسيين الوجدانيين. بيد أن أحمد المجاطي يدافع عن هذه التجربة
بقوله:"إن هذه النغمة المستوردة هي التي حملت بعض النقاد على اتخاذ مواقف
متحفظة من تجربة الغربة كلها، ولاشك أن موقفهم هذا، ناتج قبل ذلك من الخلط بين
ماهو أصيل من تلك التجربة، وبين ماهو غير أصيل، وإن الخوف المبالغ فيه من كل مايمت
بصلة إلى الحزن والضياع والتمزق، كأن الحياة نزهة مترفة، لامكان فيها للخوف،
والتردد، والرعب، وكأن الشعر لايملك أن يكون إيجابيا حتى وهو يشق العظام ليؤكد
وجود المادة النخاعية" كما يقرر روزينتال". أما الشيء الذي يؤسف له فهو
أن موقف هؤلاء الباحثين قد قادهم إلى تجاهل النجاح الذي حققته هذه التجربة، وهو
نجاح يرجع إلى أن الهم الذي عانى منه الشاعر الحديث، لم يكن هما فرديا كالهم الذي
أغرق تجربة شعراء التيارات الذاتية، في الظلمة والقتامة، واليأس، إنه هم جماعي
نابع من تفتت الأرض تحت أقدامنا، ومن ارتفاع أسوار الحديد أمام كل خطوة
نخطوها،نابع من قصر عصر الأفراح، التي تبزغ في سمائنا بين الحين والحين، فنحسب
أنها الفجر الصادق، حتى إذا فتحنا أذرعنا للقاء المنتظر، تكشف أقنعة الضوء عن
أنياب الفزع والموت. إن هذه الغربة هي غربتنا، وكل صوت نرفعه في وجه الشعر حين
يشير إليها يجب أن يتحول إلى فعل، وأن يكون هدف ذلك الفعل، الواقع العربي، لامكان
للحسرة في نفوسنا وكلماتنا. لا أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن تجربة الغربة، ولكن
هدفي هو لفت النظر إليها، وعلى الدور الذي لعبته في تهييء الشاعر الحديث لتجربة
أخرى… وهي تجربة الحياة والموت".
بيد أن أحمد المعداوي سيعتبر تجربة الغربة والضياع تجربة
سلبية فاشلة وجدت نفسها في طريق مسدود كما أثبت ذلك في كتابه "أزمة الشعر
العربي الحديث" في الفصل الثالث المخصص للرسالة الشعرية.