بين المدينة والقرية
الاجتماع عبارة عن حياة أفراد كثيرين يسكنون في محل واحد، والمراد بالمحل الواحد المعنى الإضافي منه، مثل اجتماع القرية، واجتماع المدينة، واجتماع الدولة، ولا فرق في صدق الاجتماع بين الاجتماع البدائي كالذين يعيشون على الصيد ويسكنون الكهوف والخيام، وبين المتوسط كالذين يعيشون على الرعي والزراعية، وبين الصاعد كالذين يعيشون في المدن على الصناعة، فالأولون يصطادون الأكل، والثانيون ينتجونه، والأخيرون يعيشون حياة الحضارة المعقدة.
ثم المدينة [محل سكنى الاجتماع] قد تكون مدينة متمركزة، وفقد تكن مدينة قطاعاتية، وقد تكون مدينة مراكزية، تتناسب كل مدينة مع الاجتماع الذي يختار ذلك النوع من السكنى.
وسكان البلاد في العصر الحاضر ـ وبالأخص المتقدمون أكثر صناعياً ـ لهم حياة خاصة، من ناحية هي متقدمة، ومن ناحية هي متأخرة، ومن ناحية هي أكثر تعقداً وضوضاءً وضغطاً، ولذا تكون المشاكل فيها أكثر، وقد حصل البون الشاسع بين حياة القرية وحياة المدينة.
وحيث يريد الإنسان السلامة، فاللازم أن يضع البرامج التي تضيق شقة الابتعاد بين القرية والمدينة من ناحية، وتقلل من المشاكل الناجمة من كثرة الناس، ومن لوازم الصناعة في المدينة.
وحيث أن الأحكام الشرعية تابعة للموضوعات، ولا يعلم الحكم ما لم يعرف الموضوع، كان اللازم بيان الموضوعات، حتى يعرف أحكامها من منابعها التي تستقي منها الأحكام، وكثيراً ما لا يعرف الموضوع فلا يمكن حل المشكلة، مما يوجب اضطرار الفقيه إلى بيان الحكم الثانوي له، مثلا: إذا عرف أن الاجتماع الحاضر مبني على البنك ولم يعرف كيف يمكن التخلص من الربا فيه، كان لابد من إجازة تعامل الناس مع البنوك الربوية اضطراراً بينما إذا عرف الاقتصاد الحاضر، وكيف أنه دخل فيه الربا، أمكن علاج الأمر بتقويم الاقتصاد بما يظهر منه أنه لا اضطرار إلى تقبل الربا.
بدء الحياة الإنسانية
والإنسان أول ما وجد كان كاملاً علماً(وعلم آدم الأسماء كلها)(1) إلا أن الحياة تدرج فلا بد وأن يكون بدء مجيئه إلى الأرض يعيش على الصيد والفاكهة، ثم ورد أن هابيل عليه السلام، وقابيل، أخذا في الزرع والرعي وذلك تطور من الحياة التي لا استقرار لها، إلى حياة الاستقرار في الجملة بسبب التقيّد بمحل الزرع، وبالقطيع المحتاج إلى مكان خصب، ثم يأتي دور تطور جديد:
1 ـ بالسكنى مجتمعاً في خيام أو قرية أو ما أشبه… أما مسألة الإنسان الأول والتطور الدارويني فمما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قام على خلافه.
2 ـ وباجتماعات تعيش عيشة البداوة، وأخرى تعيش عيشة التوسط.
3 ـ كما أن في القسم الثالث أناس يعيشون قمة الحضارة الحديثة بصنائعها ورفاهها ومشاكلها، وآخرون يعيشون قبل ذلك فلهم بعض محسنات ومشاكل المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة.
وقد أصبح الاجتماع بواسطة الوسائل الحديثة، وحدة واحدة، مركبة من المدينة الكبيرة، والمدينة العادية، والمدينة الصغيرة، والقرية وما قبل القرية.
القرية… أم المدينة
وهناك خلاف بين علماء الاجتماع في أفضلية سكن المدينة أو القرية، الأولى لأنها مركز الحضارة والمدينة، ولحصول الإنسان فيها على وسائل الرفاه، وتمكنه من التقدم إلى مدارج الكمال، والثانية لقلة المشاكل والضوضاء فيها، ولسلامة البيئة عن التلوث، ولقلة الأمراض، بل ولطول الأعمار.
ولكل وإن كان وجهة نظره، إلا أن القول الأول أقرب إلى الصواب لمن له قدرة المقاومة، فإن التقدمية التي جبل الإنسان عليها ـ لا تحصل في القرية.
وحسب الاختلاف المتقدم، فقد اختلفت الآراء إلى:
1 ـ هدم القرية وتكبير المدينة، وذلك بتشويق أهل القرية للهجرة إلى المدينة:
أ ـ إيجابياً بالدعاية ونحوها.
ب ـ بإهمال القرية حتى ينسحب أهلها تلقائياً مع توفير الإمكانيات للمدينة لاستيعاب أهل القرية.
2 ـ تقليل أهالي المدينة، وتكثير القرية، وتكبير الموجودة من القرى بما لا يخرج عن كونها قرية بمحسناتها، والعمل على العكس من الأول حيث تشجّع الدولة الهجرة إلى القرى، وتوفر بعض الحوائج، وتسهّل أمور الاستيطان فيها.
3 ـ تمدن القرى بإيصال بعضها ببعض، وتحصيل الوسائل الكافية لها، حتى تكون مرحلة وسطى بين المدينة المعقدة وبين القرية البسيطة.
وعلى أي، اللازم الدقة الكاملة، لما هو الأصلح بحال الإنسان ـ حيث أنه المحور ـ في رفاهه وتقدمه، وبعد ذلك الشروع في التطبيق بما لا يوجب تزلزل أركان الاجتماع.
المدن المغلقة أم المفتوحة؟
ثم هناك خلاف آخر في أنه هل من الأفضل صنع المدن الجديدة حول المدن الكبار ـ كما يتعارف الآن ـ مدناً منغلقة على طائفة، كالمعلمين، وعمال المصارف، والفلاحين وما أشبه، أو مدناً منفتحة، أمثال القرى والمدن العادية، يسكنها من يشاء من غير فرق بين المهن وما أشبه.
الأولون: يستدلون بأنه أقرب إلى الراحة، للانسجام بين أصحاب الدور حيث لهم مهنة واحدة، والانسجام يوجب الرفاه النفسي والجسدي…
والآخرون يقول: إن وحدة المهنة بين الجيران تسبب الانغلاق الفكري، حيث أن عدم رقابة الحياة توجب جمودها، وصعوبة الاختلاط غير المتجانس أهون من مشكلة عدم الرقابة المجمّد، ولعل الثاني أقرب، وفيها فوائد أخر، مثل الزواج من مختلف الأقسام، وتنوع الحياة المستقبلية للأولاد، وغير ذلك.
نعم بعض المدن الصناعية الحديثة، لابد لها من وحدة المهنة، أمثال عمال مصنع كبير وما أشبه… كما هو الحال في القرى الزراعية ونحوها، ومع ذلك يجب أن تنظم حياة أمثال هؤلاء بما لا يوجب جمود الفكر الناشئ من عدم رقابة الحياة.
الفوارق… بين المدينة والقرية
وكيف كان، فالفروق الأساسية بين المدينة والقرية هي:
1 ـ المدينة أكثر ناساً بخلاف القرية.
2 ـ روابط الأفراد في المدينة عادية، بينما الروابط في القرية شديدة، وهكذا معاداة أفراد المدن بعضهم لبعض ضعيفة بينما معاداة أفراد القرية شديدة والسر أن كثرة أعمال روابط فرد المدينة لا تدع له مجالاً لشدة الولاء، أو شدة العداء بخلاف القرية.
3 ـ سعة مجال العمل والزواج والانضمام إلى الجمعيات والمؤسسات في المدينة دون القرية.
4 ـ قوة العلم والدين والأخلاق والآداب في المدينة، لكثرة المدارس والمعلمين والوعاظ والمربين في المدينة دون القرية.
5 ـ كثرة الأمراض ويسر العلاج في المدينة، وبالعكس من الأمرين القرية، حيث تلوث البيئة في المدينة أكثر والطب والوسائل الطبية فيها أكثر بخلافهما في القرية.
6 ـ تعقد النفس في المدينة دون القرية، وذلك لأن كثرة الروابط وتناقضها، وشدة الطبقية وكثرة الحرمان في المدينة توجب ذلك، والقرية ليست كذلك.
7 ـ سهولة المعاملات، وعدم التدقيق في أمرها في المدينة، وذلك لأن كثرة الشأن فيها لا يسمح بالدقة، بخلاف القرية حيث قلة الشأن فيها فتكون مسرحاً للدقة.
8 ـ ضعف مراقبة الأهل والأولاد في المدينة، وشدتها في القرية، إذ سعة المدينة من ناحية، وكثرة شغل الإنسان فيها من ناحية ثانية، تجعل الأولاد ونحوهم بمنأى عن عين الأب والأم، ثم إن أشغالهما يمنعان من المراقبة الدقيقة وبالعكس من كلا الأمرين القرية.
9 ـ في المدينة الدخل أكثر والأرباح أوفر، بخلاف القرية، وذلك من جهة ارتفاع مستوى المعيشة في المدينة دون القرية من ناحية، ومن جهة وجود النقد أكثر في المدينة مما يجعله أكثر ابتذالاً، وبالعكس من ذلك القرية.
10 ـ التحرك الاجتماعي في المدينة عمودياً وأفقياً، حيث مختلف المؤسسات، ومتفاوت الدرجات، فيتمكن الإنسان أن ينتقل من وظيفة إلى وظيفة، كما يتمكن أن يصعد من مرتبة نازلة إلى مرتبة رفيعة، وأحياناً بالعكس وليس كذلك القرية، ولذا يكون هناك الجمود.
11 ـ أخطار المدينة أكثر من حيث السرقة، والسطو، والاختطاف، والدهس وغيرها، حيث كثرة السيارات، وتنوع الناس، وإمكانية المفسد من الاختفاء، في بحر الناس بخلاف القرية في كل ذلك.
12 ـ كثرة الفساد في الـمديــنــة من زنا ولـــواط واستعمال المخدرات ونـــحوها بخلاف القرية، وذلك للأسباب التي تقدمت في بند (11).
13 ـ زيادة الحر والبرد في القرية لقلة العائق لهما من الأبنية والعمارات بخلاف المدينة لكثرة العائق، ولذا يمكن الاستفادة من الطبيعة أكثر من القرية من المدينة.
14 ـ تشتد النزاعات القومية والطائفية والعرقية وغيرها في القرية دون المدينة، وذلك لأن المدينة بحضارتها الكثيرة ترقق من المشاعر وتعطي رؤية أوسع، بخلاف القرية في ذلك.
15 ـ تجعل القرية أفرادها أبعد عن عين الحكومة ومتناولها، حيث تضعف أجهزة الحكومة في القرية، وحيــــث القرابة والصداقة الشديدة في القـــرية، مما يستر بعضهم على بعض، وليس كذلك المدينة، ولذا تشد القرية من إزر التنظيمات المناوئة للحكومة…
ولا يخفى أنه تختلف المدن والقرى الساحلية، والجبلية، والغابية، والسطحية في بعض تلك الجهات، كما أن حركة التهريب في الساحلية، والحرب في الجبلية والغابية، وغيرهما تختلف اختلافاً كبيراً، كما أن المدن الصناعية تختلف عن غيرها من بعض الحيثيات المتقدمة، وكذلك بالنسبة إلى القرية.
الدين… والمسكن
ثم لا يخفى، أن الدين [الأعم من الأخلاق] الذي هو الإطار الصحيح للدنيا السليمة، وللآخرة السعيدة، تختلف إمكانية تمسك الإنسان به، في القرية من المدينة، وفي مدينة عن مدينة، وقرية عن قرية، وعدم التمسك به كاملاً يوجب خبالاً في الحياة، بله الآخرة، كما قال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)(2).
ولذا كان اللازم:
1 ـ أن يسكن الإنسان في محل هو اقرب إلى إمكانية تطبيق الدين، سواء سكناه الدائم، أو سكناه لأجل علم أو غيره.
2 ـ أن يهتم القائمون بالدين، في تنظيم وسائله بما يجعل الناس أقرب إلى الأخذ به، مثل أن تبني في كل مدينة وقرية مدرسة دينية، وأن تنشر الكتب والنشرات في الأحياء الصناعية، وأن يبنى المسجد في المراكز العمالية، وأن يهتم لاستعمال وسائل الإعلام كالصحف والراديو والتلفزيون، لأجل بث الدين، وتذكير الغارقين في أعمالهم بالموازين الدينية مما يوجب السعادة الدنيوية، والأخروية.
الاجتماع عبارة عن حياة أفراد كثيرين يسكنون في محل واحد، والمراد بالمحل الواحد المعنى الإضافي منه، مثل اجتماع القرية، واجتماع المدينة، واجتماع الدولة، ولا فرق في صدق الاجتماع بين الاجتماع البدائي كالذين يعيشون على الصيد ويسكنون الكهوف والخيام، وبين المتوسط كالذين يعيشون على الرعي والزراعية، وبين الصاعد كالذين يعيشون في المدن على الصناعة، فالأولون يصطادون الأكل، والثانيون ينتجونه، والأخيرون يعيشون حياة الحضارة المعقدة.
ثم المدينة [محل سكنى الاجتماع] قد تكون مدينة متمركزة، وفقد تكن مدينة قطاعاتية، وقد تكون مدينة مراكزية، تتناسب كل مدينة مع الاجتماع الذي يختار ذلك النوع من السكنى.
وسكان البلاد في العصر الحاضر ـ وبالأخص المتقدمون أكثر صناعياً ـ لهم حياة خاصة، من ناحية هي متقدمة، ومن ناحية هي متأخرة، ومن ناحية هي أكثر تعقداً وضوضاءً وضغطاً، ولذا تكون المشاكل فيها أكثر، وقد حصل البون الشاسع بين حياة القرية وحياة المدينة.
وحيث يريد الإنسان السلامة، فاللازم أن يضع البرامج التي تضيق شقة الابتعاد بين القرية والمدينة من ناحية، وتقلل من المشاكل الناجمة من كثرة الناس، ومن لوازم الصناعة في المدينة.
وحيث أن الأحكام الشرعية تابعة للموضوعات، ولا يعلم الحكم ما لم يعرف الموضوع، كان اللازم بيان الموضوعات، حتى يعرف أحكامها من منابعها التي تستقي منها الأحكام، وكثيراً ما لا يعرف الموضوع فلا يمكن حل المشكلة، مما يوجب اضطرار الفقيه إلى بيان الحكم الثانوي له، مثلا: إذا عرف أن الاجتماع الحاضر مبني على البنك ولم يعرف كيف يمكن التخلص من الربا فيه، كان لابد من إجازة تعامل الناس مع البنوك الربوية اضطراراً بينما إذا عرف الاقتصاد الحاضر، وكيف أنه دخل فيه الربا، أمكن علاج الأمر بتقويم الاقتصاد بما يظهر منه أنه لا اضطرار إلى تقبل الربا.
بدء الحياة الإنسانية
والإنسان أول ما وجد كان كاملاً علماً(وعلم آدم الأسماء كلها)(1) إلا أن الحياة تدرج فلا بد وأن يكون بدء مجيئه إلى الأرض يعيش على الصيد والفاكهة، ثم ورد أن هابيل عليه السلام، وقابيل، أخذا في الزرع والرعي وذلك تطور من الحياة التي لا استقرار لها، إلى حياة الاستقرار في الجملة بسبب التقيّد بمحل الزرع، وبالقطيع المحتاج إلى مكان خصب، ثم يأتي دور تطور جديد:
1 ـ بالسكنى مجتمعاً في خيام أو قرية أو ما أشبه… أما مسألة الإنسان الأول والتطور الدارويني فمما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قام على خلافه.
2 ـ وباجتماعات تعيش عيشة البداوة، وأخرى تعيش عيشة التوسط.
3 ـ كما أن في القسم الثالث أناس يعيشون قمة الحضارة الحديثة بصنائعها ورفاهها ومشاكلها، وآخرون يعيشون قبل ذلك فلهم بعض محسنات ومشاكل المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة.
وقد أصبح الاجتماع بواسطة الوسائل الحديثة، وحدة واحدة، مركبة من المدينة الكبيرة، والمدينة العادية، والمدينة الصغيرة، والقرية وما قبل القرية.
القرية… أم المدينة
وهناك خلاف بين علماء الاجتماع في أفضلية سكن المدينة أو القرية، الأولى لأنها مركز الحضارة والمدينة، ولحصول الإنسان فيها على وسائل الرفاه، وتمكنه من التقدم إلى مدارج الكمال، والثانية لقلة المشاكل والضوضاء فيها، ولسلامة البيئة عن التلوث، ولقلة الأمراض، بل ولطول الأعمار.
ولكل وإن كان وجهة نظره، إلا أن القول الأول أقرب إلى الصواب لمن له قدرة المقاومة، فإن التقدمية التي جبل الإنسان عليها ـ لا تحصل في القرية.
وحسب الاختلاف المتقدم، فقد اختلفت الآراء إلى:
1 ـ هدم القرية وتكبير المدينة، وذلك بتشويق أهل القرية للهجرة إلى المدينة:
أ ـ إيجابياً بالدعاية ونحوها.
ب ـ بإهمال القرية حتى ينسحب أهلها تلقائياً مع توفير الإمكانيات للمدينة لاستيعاب أهل القرية.
2 ـ تقليل أهالي المدينة، وتكثير القرية، وتكبير الموجودة من القرى بما لا يخرج عن كونها قرية بمحسناتها، والعمل على العكس من الأول حيث تشجّع الدولة الهجرة إلى القرى، وتوفر بعض الحوائج، وتسهّل أمور الاستيطان فيها.
3 ـ تمدن القرى بإيصال بعضها ببعض، وتحصيل الوسائل الكافية لها، حتى تكون مرحلة وسطى بين المدينة المعقدة وبين القرية البسيطة.
وعلى أي، اللازم الدقة الكاملة، لما هو الأصلح بحال الإنسان ـ حيث أنه المحور ـ في رفاهه وتقدمه، وبعد ذلك الشروع في التطبيق بما لا يوجب تزلزل أركان الاجتماع.
المدن المغلقة أم المفتوحة؟
ثم هناك خلاف آخر في أنه هل من الأفضل صنع المدن الجديدة حول المدن الكبار ـ كما يتعارف الآن ـ مدناً منغلقة على طائفة، كالمعلمين، وعمال المصارف، والفلاحين وما أشبه، أو مدناً منفتحة، أمثال القرى والمدن العادية، يسكنها من يشاء من غير فرق بين المهن وما أشبه.
الأولون: يستدلون بأنه أقرب إلى الراحة، للانسجام بين أصحاب الدور حيث لهم مهنة واحدة، والانسجام يوجب الرفاه النفسي والجسدي…
والآخرون يقول: إن وحدة المهنة بين الجيران تسبب الانغلاق الفكري، حيث أن عدم رقابة الحياة توجب جمودها، وصعوبة الاختلاط غير المتجانس أهون من مشكلة عدم الرقابة المجمّد، ولعل الثاني أقرب، وفيها فوائد أخر، مثل الزواج من مختلف الأقسام، وتنوع الحياة المستقبلية للأولاد، وغير ذلك.
نعم بعض المدن الصناعية الحديثة، لابد لها من وحدة المهنة، أمثال عمال مصنع كبير وما أشبه… كما هو الحال في القرى الزراعية ونحوها، ومع ذلك يجب أن تنظم حياة أمثال هؤلاء بما لا يوجب جمود الفكر الناشئ من عدم رقابة الحياة.
الفوارق… بين المدينة والقرية
وكيف كان، فالفروق الأساسية بين المدينة والقرية هي:
1 ـ المدينة أكثر ناساً بخلاف القرية.
2 ـ روابط الأفراد في المدينة عادية، بينما الروابط في القرية شديدة، وهكذا معاداة أفراد المدن بعضهم لبعض ضعيفة بينما معاداة أفراد القرية شديدة والسر أن كثرة أعمال روابط فرد المدينة لا تدع له مجالاً لشدة الولاء، أو شدة العداء بخلاف القرية.
3 ـ سعة مجال العمل والزواج والانضمام إلى الجمعيات والمؤسسات في المدينة دون القرية.
4 ـ قوة العلم والدين والأخلاق والآداب في المدينة، لكثرة المدارس والمعلمين والوعاظ والمربين في المدينة دون القرية.
5 ـ كثرة الأمراض ويسر العلاج في المدينة، وبالعكس من الأمرين القرية، حيث تلوث البيئة في المدينة أكثر والطب والوسائل الطبية فيها أكثر بخلافهما في القرية.
6 ـ تعقد النفس في المدينة دون القرية، وذلك لأن كثرة الروابط وتناقضها، وشدة الطبقية وكثرة الحرمان في المدينة توجب ذلك، والقرية ليست كذلك.
7 ـ سهولة المعاملات، وعدم التدقيق في أمرها في المدينة، وذلك لأن كثرة الشأن فيها لا يسمح بالدقة، بخلاف القرية حيث قلة الشأن فيها فتكون مسرحاً للدقة.
8 ـ ضعف مراقبة الأهل والأولاد في المدينة، وشدتها في القرية، إذ سعة المدينة من ناحية، وكثرة شغل الإنسان فيها من ناحية ثانية، تجعل الأولاد ونحوهم بمنأى عن عين الأب والأم، ثم إن أشغالهما يمنعان من المراقبة الدقيقة وبالعكس من كلا الأمرين القرية.
9 ـ في المدينة الدخل أكثر والأرباح أوفر، بخلاف القرية، وذلك من جهة ارتفاع مستوى المعيشة في المدينة دون القرية من ناحية، ومن جهة وجود النقد أكثر في المدينة مما يجعله أكثر ابتذالاً، وبالعكس من ذلك القرية.
10 ـ التحرك الاجتماعي في المدينة عمودياً وأفقياً، حيث مختلف المؤسسات، ومتفاوت الدرجات، فيتمكن الإنسان أن ينتقل من وظيفة إلى وظيفة، كما يتمكن أن يصعد من مرتبة نازلة إلى مرتبة رفيعة، وأحياناً بالعكس وليس كذلك القرية، ولذا يكون هناك الجمود.
11 ـ أخطار المدينة أكثر من حيث السرقة، والسطو، والاختطاف، والدهس وغيرها، حيث كثرة السيارات، وتنوع الناس، وإمكانية المفسد من الاختفاء، في بحر الناس بخلاف القرية في كل ذلك.
12 ـ كثرة الفساد في الـمديــنــة من زنا ولـــواط واستعمال المخدرات ونـــحوها بخلاف القرية، وذلك للأسباب التي تقدمت في بند (11).
13 ـ زيادة الحر والبرد في القرية لقلة العائق لهما من الأبنية والعمارات بخلاف المدينة لكثرة العائق، ولذا يمكن الاستفادة من الطبيعة أكثر من القرية من المدينة.
14 ـ تشتد النزاعات القومية والطائفية والعرقية وغيرها في القرية دون المدينة، وذلك لأن المدينة بحضارتها الكثيرة ترقق من المشاعر وتعطي رؤية أوسع، بخلاف القرية في ذلك.
15 ـ تجعل القرية أفرادها أبعد عن عين الحكومة ومتناولها، حيث تضعف أجهزة الحكومة في القرية، وحيــــث القرابة والصداقة الشديدة في القـــرية، مما يستر بعضهم على بعض، وليس كذلك المدينة، ولذا تشد القرية من إزر التنظيمات المناوئة للحكومة…
ولا يخفى أنه تختلف المدن والقرى الساحلية، والجبلية، والغابية، والسطحية في بعض تلك الجهات، كما أن حركة التهريب في الساحلية، والحرب في الجبلية والغابية، وغيرهما تختلف اختلافاً كبيراً، كما أن المدن الصناعية تختلف عن غيرها من بعض الحيثيات المتقدمة، وكذلك بالنسبة إلى القرية.
الدين… والمسكن
ثم لا يخفى، أن الدين [الأعم من الأخلاق] الذي هو الإطار الصحيح للدنيا السليمة، وللآخرة السعيدة، تختلف إمكانية تمسك الإنسان به، في القرية من المدينة، وفي مدينة عن مدينة، وقرية عن قرية، وعدم التمسك به كاملاً يوجب خبالاً في الحياة، بله الآخرة، كما قال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)(2).
ولذا كان اللازم:
1 ـ أن يسكن الإنسان في محل هو اقرب إلى إمكانية تطبيق الدين، سواء سكناه الدائم، أو سكناه لأجل علم أو غيره.
2 ـ أن يهتم القائمون بالدين، في تنظيم وسائله بما يجعل الناس أقرب إلى الأخذ به، مثل أن تبني في كل مدينة وقرية مدرسة دينية، وأن تنشر الكتب والنشرات في الأحياء الصناعية، وأن يبنى المسجد في المراكز العمالية، وأن يهتم لاستعمال وسائل الإعلام كالصحف والراديو والتلفزيون، لأجل بث الدين، وتذكير الغارقين في أعمالهم بالموازين الدينية مما يوجب السعادة الدنيوية، والأخروية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق