الجهاز النفسي عند فرويد
سننطلق من تحديد
اللاشعور Inconscient عند فرويد
للاستخلاص بنيته و أهميته كاكتشاف مكن فرويد من بناء نظرية عامة تفسر الحياة
النفسية للإنسان. إذ يتحدد اللاشعور باعتباره المجموع الديناميكي من الميولات و
الرغبات و الذكريات المكبوتة التي لا تتمظهر بشكل سافر في الشعور، و لكن تتمظهر في
شكل أحلام أو هفوات أفعال أو زلات لسان أو إبداعات ثقافية.
أول ما يجب الانتباه
إليه في هذا التحديد هو التأكيد على خاصية الديناميكية التي تعطي للاشعور أهميته
النظرية و الإجرائية في فهم نفسية الإنسان. فديناميكية اللاشعور هي التي تمكن
فرويد من الإقرار بأن كل محتوى شعوري هو لاشعوري من زاوية ما، أي أن كل الأفعال
الواعية تجد أسبابها في مسارات نفسية لاشعورية. ذلك أن المكبوت يظل في حركية
مستمرة باحثا عن الإشباع، و الرغبة المكبوتة لا تنتفي من تلقاء نفسها و لا تكف عن
التحرك إلا عند إشباعها إما بطريقة مباشرة عبر ممارسة جنسية و إما بطريقة غير
مباشرة عبر ميكانيزم الإعلاء الذي يستبدل الهدف الجنسي بآخر ثقافي. هذا يعني أن ما
يكبت ليس الرغبة في حد ذاتها و إنما التمثل الذي يكونه الأنا عن الرغبة.
يجب أن ننتبه ثانيا إلى
أن الكبت Inhibition هو ميكانيزم
حماية نفسية تمكن الأنا Le Moi من تجنب عقاب العالم الخارجي( عقاب الوالدين في مرحلة الطفولة
و عقاب المجتمع الذي يتخذ عدة أشكال كالاستبعاد و النبذ و السخرية...) و عقاب
الأنا الأعلى Le Surmoi ( يتمظهر في شكل الإحساس بالدونية أو ما يسميه فرويد بعقدة النقص Complexe d'inferiorité، والإحساس بالذنب أي عقدة الذنب Complexe de culpabilité). و إذا كانت الرغبات المكبوتة تبحث دائما على الإشباع الذي
تحققه إما بطريقة مباشرة و إما بطريقة غير مباشرة فإن ذلك يؤدي إلى اعتبار الحضارة
وليدة الكبت.
و يجب أن ننتبه ثالثا و
أخيرا، أن اللاشعور عند فرويد يتكون أساسا من رغبات جنسية مكبوتة، ذلك أن الحياة
الجنسية عند الإنسان لا تنطلق عند البلوغ، بل إنها تنطلق منذ الولادة، لذلك يحرس
فرويد على تحديد مراحل تطورها في الطفولة. إذ يتحدث فرويد عن ثلاث مراحل طفولية و
قبل البلوغ :
1- المرحلة الفمية Phase buccale حيث
يكون الفم مصدرا للذة الجنسية.
2- المرحلة الشرجية Phase annale حيث
تكون المخارج مصدرا للذة الجنسية.
3- المرحلة القضيبية Phase phallique حيث
تكون الأعضاء التناسلية مصدرا للذة الجنسية.
و من هذا المنطلق يقسم
فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاث مناطق تتكون تلاحقا و تتطور و هي : الهو Le ça و الأنا و الأنا الأعلى. إقرار
فرويد بتطور الجهاز النفسي من حيث تكون منظماته و من حيث محتوياتها يؤكد أهمية
التاريخ في فهم الإنسان، و التاريخ هنا يأخذ معنى السيرة الذاتية و لكن أيضا معنى
التاريخ العام نظرا لما يقره فرويد من انه في لا شعور كل فرد هناك عناصر توجد في
كل لاشعور مثل عقدة أوديب، عقدة الخصي...و هي عقد لا ترتبط بالسيرة الذاتية لكل
فرد بقدر ما ترتبط بالبنية الحضارية العامة لتنظيم المجتمعات كما تحققت في تاريخ
الإنسانية.
و الهو هو أقدم منظمات
الجهاز النفسي تكونا، و يتكون مما يحمله الإنسان عند ولادته و كل ما سيحدده تكوينه
الخاص. و هذه المنظمة محكومة بمبدأ اللذة لذلك تتصادم مع الواقع و الأنا الأعلى
الذي يمثله داخل الفرد. و يحدد فرويد الأنا في «مختصر التحليل النفسي» باعتباره
جزءا من الهو يتطور و ينشأ تحت تأثير تجارب الإدراك فتكون مهمته التوفيق بين الهو
و العالم الخارجي و الهو و الأنا الأعلى عندما يتكون. ذلك أن الأنا الأعلى هو آخر
منظمات الجهاز النفسي تكونا حيث يتمثل الطفل و يستبطن علاقته بالوالدين اللذان
يعاقبانه عندما يتجاوز الحدود التي يرسمها الواقع، فالأنا الأعلى يعبر عن الوعي
الأخلاقي و الاجتماعي للفرد.
و يقر فرويد بصعوبة
المهمة التي يقوم بها الأنا في الجهاز النفسي، و هذه المهمة الصعبة إن لم نقل
المستحيلة تتمثل في التوفيق بين متطلبات متناقضة، إذ على الأنا أن يلبي متطلبات
الهو و هي رغبات جنسية أساسا و أن يراعي في نفس الوقت متطلبات العالم الخارجي و
الأنا الأعلى وهي متطلبات أخلاقية و اجتماعية. لذلك تبدو عملية التوفيق بينها
صعبة، و فشل الأنا في خلق توازن بين هذه الرغبات المتناقضة، فشل الأنا في تحقيق
الإنسجام بين مختلف القوى الفاعلة فيه و المؤثرات الواقعة عليه يؤدي إلى حالات
مرضية عصابية Névrose كالفوبيا و الهستيريا. لذلك يسعى الأنا لأن يقيم في علاقة تفاهم و وفاق مع
الهو، و يسعى إلى تلبية رغباته فيصطدم بالواقع الذي ينظم العلاقات الجنسية وفق
معايير معينة تؤدي في غالب الأحيان إلى كبت الرغبات الجنسية و صدها بما أن متطلبات
المجتمع هي الأقوى نظرا لضعف الفرد أمام المجموعة، فيتوخى الأنا «طريق الرياء
الديبلوماسي» و يتظاهر باعتبار الواقع ليشبع رغبات الهو التي تبقى في حركية دائمة
نحو البحث عن الإشباع، و بالتالى يشبع الأنا رغبات الهو بتوخي طرق ملتوية تتمظهر
في الأحلام و زلات اللسان و هفوات الأفعال و الإبداعات الثقافية.
و يجب أن نلاحظ أن
الإشباع المباشر و غير المباشر ضروري حتى يتجاوز الأنا الإحساس بالإحباط Déprission أي الشعور بالحرمان من لذة
يعتبرها من حقه، و هذا يعني أن الإشباع ضروري للصحة النفسية، و الغياب الدائم
للإشباع المباشر يؤدي إلى ظهور الأعراض العُصابية. و لأن الكبت لا ينال من دينامية
الرغبة، إذ أنها تواصل بحثها عن الإشباع بطرق ملتوية، فإنها تستلب في شكل صور
تحافظ على الطابع الطفولي للنزعة الجنسية وتعبر عنها صور الأحلام بصفة خاصة. وهذا
يعني أن الصورة الاستيهام -
Fantasme- هي في منظور فرويد -Freud- رمز علة تصادمية - Cause conflictuelle- قابلت في ماضي بعيد لسيرة فردية الليبيدو (وهو الطاقة الجنسية التي تتولد
لحظة الإثارة) و الرقابة (و هي مانع اجتماعي أبوي يمثل السبب الحقيقي الموجب لظهور
الأعراض العُصابية)، فالصورة تدل دائما عن صدّ الرقابة لليبيدو في مرحلة الطفولة،
و هي تدل إذن عن نكوص عاطفي
Régression affective
نظرية فرويد
يعرِّف
"فرويد" الحلم بأنه تحقيق مقنع لرغبة مكبوتة فهو لا يعدو في النهاية عن
كونه تنفيذاً لرغبة معينة استعصى تحقيقها في الواقع، وتشكل النزعات اللاشعورية
الينابيع الأساسية لمادة الأحلام.
ويقول في كتاب "
تفسير الأحلام" والذي يعد حجر الأساس لعلم التحليل النفسي بأن الأحلام ظاهرة
فيزيائية ذات وجود كامل يتولى تركيبها نشاط معقد يجري داخل الدماغ.
وأن القوة المولدة
للحلم في رأي " فرويد" ليست نشاطاً عشوائياً يحدث في الدماغ وإنما هي
عبارة عن رغبة لا واعية حبيسة في ضمير الشخص الحالم.
ولابد لنا قبل كل شيء
من أن نميز بين طبقتين في العقل أولها الطبقة الواعية أو الشعور وثانيها الطبقة
اللاواعية والتي يطلق عليها اللاشعور.
إن هذا اللاشعور يشتمل
على الرغبات المكبوتة والأماني المستحيلة وجميع المعتقدات أو الأفكار التي لا نجرؤ
في الواقع ونحن يقظون بأن نبوح بها أو نعترف بماهيتها لأنها قد تكون مخالفة
للعادات والتقاليد والتعاليم الدينية والاجتماعية وغيرها، فهي مختزنة في اللاوعي
لدينا منذ الطفولة والتي تبقى معنا إلى الأبد.
وبين هاتين الطبقتين
يوجد طبقة يطلق عليها اسم "الرقيب" ووظيفتها تتلخص في الحيلولة دون
الإفصاح عما يختزنه اللاشعور أثناء اليقظة، وبالمقابل يضعف دورها أثناء النوم لأن
الرقيب ينام ويغفل فتتمكن بذلك الرغبات المكبوتة من الوصول إلى ساحة الشعور وبذلك
يصبح المستحيل ممكناً والخيال حقيقة ويتمكن اللاشعور بذلك من الإفصاح عن مكنوناته
في غياب القيود والرقابة أثناء النوم.
فقد يرى الشخص في حلمه
ذلك الشخص الذي يحب ويتمنى الارتباط به، مع أنه صعب تحقيقه في واقعه الراهن، وقد
يجد مالاً ضاع منه منذ وقت أو قد يسافر إلى بلد كان يتمنى السفر إليه منذ طفولته
ولكن الظروف حالت بينه وبين تحقيق هذا الهدف.
أهمية الأحلام
تلك الأحلام تعكس
الآمال والرغبات التي لم تر النور في الواقع فهي تنفس عن صاحبها وتغسل همومه
وتحذره من العواقب أحياناً وقد تكون سبباً في إلهامه وحل مشاكله.
وهذا ما يؤكد لنا أهمية
الأحلام في حياة الإنسان ويذكر الكاتب "روبرت لويس" بهذا الصدد بأن فكرة
تأليف كتابه المشهور "الدكتور جيكل ومستر هايد" قد خطرت له في الحلم.
وعندما كان
"إيلياس هاو" يحاول اختراع آلة للخياطة حلم أثناء نومه بأنه وقع في أسر
رجل متوحش يحمل حربة ذات ثقوب في سنانها.
وعندما استيقظ من نومه
أدرك أن ثقب الإبرة الذي كان يحيره لحمل الخيط يجب أن يكون في أسفل إبرة الخياطة
لا في وسطها.
أحلام اليقظة
تأتي هذه الأحلام كرد
فعل على الحياة اليومية التي يعيشها الفرد فهي تحقيق عفوي للرغبات والميول اليومية
التي لم تحقق إشباعاً كاملاً.
ويلجأ
"فرويد" إلى الأحلام الطفولية ليوظفها كأمثلة حية في البناء النفسي
للحلم، فيروي لنا بأنه طلب من الطفل "هارتمان" أن يقدم سلة مليئة بالكرز
إلى شخص آخر، على أن يكافأ بالحصول على بعض حبات الكرز لقيامه بالعمل، وفي اليوم
التالي حلم الطفل "هارتمان" بأنه قد التهم جميع الكرزات الموجودة في
السلة. فمثل هذه الأحلام المباشرة تأتي كرد فعل على أحداث يتمنى المرء لو أنها
حدثت كما كان يشتهي أثناء حياته اليومية.
أما في مرحلة البلوغ
فتمضي الأحلام على المستويين النفسي والجنسي وفي هذا المجال يلاحظ أن كتاب
الروايات والمغامرات يرسمون أحلام أبطالهم بطريقة بارعة فالمحبون يلتقون والمساجين
يتحررون والمسافرين يعودون من الغربة وهكذا.
الحلم والجنس
ويذهب
"فرويد" إلى القول بأن أحلام الراشدين هي تحقيق لرغبات جنسية كبتت أثناء
الطفولة ومع ذلك فإن فرويد يرى ضرورة عدم المبالغة بالنظر إلى الجنس بوصفه يملك
تأثيراً نهائياً وبلا حدود.
أما "إدلر"
تلميذ "فرويد" والذي انشق عنه فيما بعد، فإن يتفق مع أستاذه في أن
الأحلام تحقيق للرغبات، غير أنه يرى أن غريزة توكيد الذات أكثر أصالة من غريزة
الجنس.
ولذلك فهو يرى أن الحلم
ليس إحياء للماضي البعيد بل أنه تهيؤ واستعداد للمستقبل القريب.
أما التلميذ الثاني
لـ"فرويد" والذي انشق عنه وكون مدرسة خاصة به، وهو "يونغ"
فيرى بأن الحلم متصل بمشكلات الحالم الحاضرة ومعبر عن موقف الحالم اللاشعوري من
مشكلات حياته. وقد ظهر لدى جماعة من المهتمين بالأحلام بأن المواقف والأفكار
والانفعالات التي تتولد في نفس الإنسان خلال اليقظة تؤثر في عملية الحلم فهي تتقلب
حسب مزاج الإنسان، فإذا كان مزاجه هادئاً قبل النوم وأموره على ما يرام فمن المرجح
أن تكون أحلامه طيبة وحلوة والعكس صحيح.
الرمزية في الحلم
إن الرموز في الحلم
قليلة ولكنها زاخرة بالمعاني شأنها في ذلك شأن اللوحة الفنية أو المقطوعة
الموسيقية ويعتقد بعض الباحثين بأن الرمز الواحد قد يتخذ أكثر من معنى في الحلم
الواحد وكذلك بين شخص وآخر فليس إذاً من السهل تفسيره أو تأويله.
وهناك رموز تشير إلى
جهود المرء في الابتعاد عن مشكلة ما، فإذا حلمت امرأة مثلاً بأن رجلاً يحمل سكيناً
ويطاردها في شارع مظلم وهي تعدو أمامه، فإن تفسير ذلك قد يعني أنها تهرب من مخاوف
تلاحقها أثناء اليقظة.
وأخيراً يمكننا القول
بأن الحلم قد يكون قوة مبدعة بناءة وذلك عندما ينذر صاحبه بضخامة المشكلات التي
تواجهه، ويشير إليه بطريقة للحل، ويذكره بأنه مازال قادراً على الكفاح مما يبقي
الأمل في نفسه ويساعده على فهم أوضح للذات وذلك عندما يكشف لصاحبه أن مفهومه
الواعي يختلف كلياً عن نظيره اللاواعي وعلى خلفية هذه الفجوة القائمة بين الشعور
واللاشعور يعرف المرء ذاته أكثر
هناك تعليقان (2):
ممتاز ... جداً جداً ..
👌
إرسال تعليق